الاثنين، 3 نوفمبر 2008

الفيزيائيون ليونارد سسكيند و ميشيو كاكو و آلن غوث



تفكيك الكون و مفاهيمه







للعلم وظائف عديدة و مختلفة منها تفسير الظواهر و تحليل المصطلحات و تفكيك الكون و مفاهيمه . نرصد في هذا المقال التفكيك العلمي المعاصر لمفاهيمنا التقليدية و نركز على الفيزياء و كيف غيّرت نظرتنا إلى الكون . فنعرض موقف الفيزيائي سسكيند حول الثـقوب السوداء، و نظرية الفيزيائي كاكو عن المستحيل و الممكن ، و نظرية الفيزيائي غوث حول الوجود و العدم.يبني الفيزيائي ليونارد سسكيند نظرية فيزيائية جديدة عن ماذا يحدث للمادة عندما تسقط في الثـقب الأسود. تتكوّن الثـقوب السوداء من جراء انهيار النجوم على ذاتها بفضل جاذبيتها الهائلة. بالنسبة إلى النظرية الكلاسيكية حول الثـقوب السوداء، أي شيء يدخل في الثـقب الأسود سوف يتلاشى و لن يتمكن من الخروج منه بسبب جاذبيته القوية حتى أن الضوء لا ينجح في الفرار من الثـقب الأسود. و كما تنهار المادة والمعلومات في الثـقوب السوداء كذلك تنهار القوانين الطبيعية. و تنتشر الثـقوب السوداء في الكون و تتمركز في وسط المجرات. و كما ينشأ الصراع حول كل قضية علمية، نشأ الصراع العلمي حول الثـقوب السوداء وما إذا كانت المعلومات داخل تلك الثـقوب تتلاشى حقا ً أم لا . هكذا انقسم العلماء إلى فريقين : فريق يقول إن المعلومات التي تدخل في الثـقب الأسود تتلاشى و تزول نهائيا ً ، و فريق آخريرفض ذلك و يصر على بقاء المعلومات التي تدخل تلك الثـقوب. فبينما الفيزيائي ستيفن هوكنغ دافع لفترة طويلة عن الموقف الأول و أكد على زوال المعلومات المتمثلة في المواد التي تسقط في الثـقوب السوداء و من ثم بدّل رأيه واعتبر أن تلك المعلومات لا تزول حقا ً بل تخرج من الثـقوب بشكل إشعاعات ، أكد الفيزيائي ليونارد سسكيند منذ بداية هذا الصراع العلمي على أن المعلومات في الثـقوب السوداء لا تزول (Leonard Susskind : The Black Hole War . 2008 . Little , Brown And Company ).السبب الأساسي الذي دعا سسكيند إلى موقفه هو التالي : إذا كانت المادة أي المعلومات تزول من الوجود متى دخلت الثـقوب السوداء، فهذا يعارض مبدأ علميا ً فيزيائيا ً أساسيا ً هو أن المادة و الطاقة لا زوال لهما . فهذا المبدأ الأخير جزء أساسي من الفيزياء المعاصرة، ولذا من الصعب رفضه لمجرد أن نفسِّر ثـقوب كوننا السوداء. من هنا ، يبدو أن المعلومات تزول في الثـقب الأسود، لكن من جهة أخرى يبدو أيضا ً أن تلك المعلومات لا تزول في الثـقب الأسود. هذه هي المشكلة العلمية التي يسعى ليونارد سسكيند إلى حلّها. فلا بد أن تزول المعلومات في الثـقب الأسود لأن تعريف الثـقب الأسود هو أنه الذي يبتلع المواد المعلومات و يفنيها من جراء جاذبيته الهائلة و بسبب انهيار القوانين الطبيعية في الثـقوب السوداء. لكن أيضا ً لا بد أن لا تزول المعلومات في الثـقب الأسود و إلا لتعارض زوالها مع مبدأ حفظ المادة و الطاقة. إذن : كيف السبيل إلى حلّ هذه المعضلة ؟ يقدِّم سسكيند حله الخاص وهو التالي : من منظور الزمكان خارج الثـقب الأسود تزول المواد المعلومات في الثـقوب السوداء، لكن من منظور الزمكان داخل الثـقب الأسود لا تزول المعلومات في الثـقوب السوداء. هكذا يقسّم الفيزيائي سسكيند العالم إلى عالميْن : عالم خارج الثـقوب السوداء حيث تزول المعلومات في الثـقب الأسود، و عالم داخل الثـقوب السوداء حيث لا تزول المعلومات . وبذلك لا يُعارَض مبدأ حفظ المعلومات من جراء اعتبار أن المعلومات لا تزول من منطلق العالم داخل الثـقب الأسود، و يُعبَّر في الوقت ذاته عن ماهية الثـقوب السوداء المبتلعة للمعلومات و المفنية لها من منطلق العالم خارج الـثـقوب السوداء. وبذلك يحل الإشكال كما يؤكد سسكيند. و يشرح لنا كيف أن موقفه لا يقع في التناقض حيث يقول إنه يستحيل على الذي خارج الثـقب الأسود أن يقارن ما يرى بما يراه من هو داخل الثـقب الأسود ، وبذلك لا تعارض بين زوال المعلومات و حفظها لأن زوالها يتم من منظور عالم مختلف عن العالم الذي يتم فيه حفظها (المرجع السابق ).على هذا الأساس، يفكك ليونارد سسكيند الكون فيجعله كونيْن : كون حيث تزول المعلومة ، و كون آخر حيث لا تزول. لقد اعتادت البشرية عبر التاريخ التسليم بوجود عالم واحد هو عالمنا. لكن أظهرت بعض النظريات العلمية المعاصرة أن مسلّمتنا تلك كاذبة. هكذا يقينياتنا الجاهزة عرضة للتفكيك و الفناء. كما أن موقف سسكيند يتفق مع نظرية ميكانيكا الكمّ، وعلى ضوء ذلك يدافع عن موقفه. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم ّ، من غير المحدَّد سرعة الجسيم و مكانه في آن ، و من غير المحدَّّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة، و الجسيم ذاته قد يوجد في أمكنة مختلفة في الوقت نفسه . لا بد من تفسير هذه المبادئ الخاصة بميكانيكا الكم ّ ؛ فكيف يعقل أن يكون من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم لا ؟ من هذا المنطلق نشأت تفاسير عديدة ومختلفة لنظرية ميكانيكا الكم ّ. و من تلك التفاسير تفسير يقول إنه لا يوجد عالم واحد بل ثمة عالمان مختلفان : عالم حيث الجسيم جسيم و عالم آخر حيث الجسيم ذاته ليس جسيما ً بل موجة. ولقد عبّر الفيزيائيون عن لامحددية عالم ما دون الذرة بقولهم إنه من غير المحدَّد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. وهذا يعني أنه يوجد عالمان بدلا ً من عالم واحد : عالم حيث قطة شرودنغر حية و عالم آخر حيث القطة نفسها ميتة. هكذا تتجنب ميكانيكا الكم التناقض و تفسّر موقفها (Tony Hey and Patrick Walters : The New Quantum Universe. 2003. Cambridge University Press ) . وهذا تماما ً ما قام به ليونارد سسكيند حين قال إنه ثمة عالمان : عالم خارج الثـقب الأسود حيث تزول المعلومات في الثـقوب السوداء، و عالم داخل الثـقب الأسود حيث لا تزول المعلومات ذاتها. فموقف ميكانيكا الكم ّ من عالمنا تماما ً كموقف الفيزيائي سسكيند يرينا كيف من الممكن تفكيك الكون وجعله كونيْن بدلا ً من كون واحد. وهذا أعلى مستوى من مستويات تفكيك يقينياتنا و إظهار أنها مجرد أوهام. فالفكرة الأساسية التي سيطرت على عقولنا هي أنه ثمة كون واحد ، لكن العلم يرينا أنه على الأرجح ثمة كونان مختلفان.من يقينياتنا المخادعة أيضا ً التمييز الجذري بين المستحيل و الممكن. لكن الفيزيائي ميشيو كاكو يعتبر أن المستحيل مفهوم نسبي ؛ فما نظنه مستحيلا ً قد يتحوَّل إلى ممكن و يتحقق في الواقع. مثل ذلك أن كيمياء القرن التاسع عشر أصرت على استحالة تحويل الرصاص إلى ذَهب . لكن الآن أصبح من الممكن تحويل الرصاص إلى ذَهَب من خلال الآلات المُحطِّمة للذرة. من هنا المستحيل يغدو ممكنا ً و يزول الفارق الجذري بين المستحيلات و الممكنات . كما يقسِّم ميشيو كاكو المستحيلات المفترضة إلى ثلاثة أنواع هي التالية: المستحيلات التي لا تناقض قوانين الفيزياء و بذلك من الممكن أن تصبح ممكنات فوقائع في هذا القرن أو الذي يليه، مثل ذلك الانتقال عن بُعد من نقطة إلى أخرى من دون المرور بالمسافة الفاصلة بين النقطتين. ثانيا ً ، المستحيلات التي من الممكن أن تغدو ممكنات و تتحقق بعد آلاف أو ملايين من السنين كآلة الزمن التي ستمكننا من السفر إلى الماضي و المستقبل. ثالثا ً، المستحيلات التي تناقض قوانين الفيزياء التي نعرفها، وعددها قليل، وإذا ما اتضح أنها ممكنات فسيؤدي هذا إلى تحوّل أساسي في فهمنا للفيزياء، مثل ذلك الآلة التي تتحرك إلى الأبد. على هذا الأساس يعتبر كاكو أن التقسيم السابق للمستحيلات يرينا أن ما هو مستحيل هو كذلك بالنسبة إلى حضارتنا، وبذلك المستحيل نسبي فما هو مستحيل بالنسبة إلينا قد يكون ممكنا ً بالنسبة إلى حضارات أخرى متطورة أكثر منا. من هنا يؤكد كاكو على نسبية المستحيل وبذلك يرفض التمييز الجذري بين المستحيل و الممكن (Michio Kaku : Physics of The Impossible . 2008 . Doubleday ). هكذا يفكك الفيزيائي ميشيو كاكو يقيننا الكاذب القائل بأنه يوجد فرق حاسم بين ما هو مستحيل و ما هو ممكن.أما الفيزيائي آلن غوث فيقدّم تفكيكا ً مثيرا ً للوجود. تبدأ نظريته من دراسة العدم و مما يتكوّن. بالنسبة إلى غوث ، يتشكل العدم من طاقات متعارضة و لتعارضها تختزل بعضها البعض فيحدث العدم. ولأن العدم يتعرض لتقلبات كمية من جراء مبدأ اللامحدد، ينشأ الكون من العدم. و بعد نشوئه يتضخم تضخما ً هائلا ًَ في فترة زمنية قصيرة جدا ً ما جعله مسطحا ً و منسجما ً في توزيع مواده و طاقاته. هكذا يتم تفسير لماذا الكون مسطح و منسجم. يضيف آلن غوث أنه إذا جمعنا طاقات الكون مع بعضها البعض فسوف تساوي صفرا ً بسبب أن الطاقة السالبة متساوية مع الطاقة الإيجابية في الكون. و بما أنه إذا جمعنا طاقة الكون فسوف تساوي صفرا ً ، إذن يستنتج آلن غوث أن الكون موجود لأنه مجرد عدم (Alan Guth : The Inflationary Universe . 1997 .Jonathan Cape ) . هكذا يفكك غوث الكون و مفهومي الوجود و العدم فيظهر من منظور نظريته العلمية أنه لا يوجد فرق حق بين الوجود و العدم ؛ فالوجود موجود لأنه عدم. فبينما سيطر التمييز بين الوجود و العدم على عقل البشرية لآلاف من السنين، يبدو أن العلم اليوم يُظهر كذب يقيننا بأنه ثمة فرق جذري بين الوجود و العدم . من هنا تكذب اليقينيات كلما ادعت أنها يقينيات.كل هذا يدعم موقف السوبر حداثة التي تقول إن اللامحدَّد يحكم العالم كله. فلقد رأينا أن الكون ينقسم إلى كونين ، و بذلك من غير المحدَّد أي منهما هو عالمنا. كما وجدنا أن المفاهيم المتعارضة كالمستحيل و الممكن و الوجود و العدم هي حقا ً متقاربة في معانيها و مدلولاتها ما يشير إلى لامحدديتها. فمن غير المحدَّد ما هو المستحيل و ما هو الممكن ، لذا قد يتحوّل المستحيل إلى ممكن و لذا لا يوجد فرق جذري بين المستحيل و الممكن كما أكد الفيزيائي ميشيو كاكو. و من غير المحدَّد ما هو الوجود و ما هو العدم ، و لذا لا فرق جذري بين الوجود و العدم كما أصر الفيزيائي آلن غوث. هكذا تكتسب نظرية لامحددية عالمنا قدرتها التفسيرية.




حسن عجمي
الرابط : http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=312408